التلغراف في لقاء مع الأستاذ فؤاد نمّور رئيس رابطة إحياء التراث العربي

أجرى اللقاء أنطوني ولسن
مقتطفات من الحديث:
ـ لماذا هذه السريّة حول لجنة منح جائزة جبران؟
ـ السريّة شرط فرضه علينا أعضاء اللجنة أنفسهم، ليتجنّبوا الإحراج والمراجعات، ولا أغلو الحقيقة إذا قلت: ليتجنّبوا الشتائـم أيضاً!
ـ أستاذ فؤاد، بما أنّك أتيت على ذكر "الشتائم"، ما رأيك بقصيدة "قرف" للشاعر شربل بعيني، والضجّة التي أثيرت حولها. علماً بأنّ فيها بعض الألفاظ أو الكلمات، التي قد تبدو "شتائم"؟
ـ الشاعر، يا أخ أنطوني، إنسان كوثريّ الأبعاد، يتبعثر، يتوحّد، يطرح الـ "لماذا" الكبرى، يلحّ بالسؤال، كما لو أنّ الإله فيه راح يسائل الإنسان، يعيش في نشوة نفس ونشوة حسّ، يجثو بكلّيته ويصلّي في هيكل الجمال، يستنطق الكون، ويحاور المجهول، ويصل إلى أسراره بشعور المتأمّل، وحدس المصلّي، وحسّ الشاعر والنبي.
برأيي أن شربل بعيني، وهو صديق حميم، وسكرتير رابطة إحياء التراث العربي، لو أنّه لـم يقل غير قصيدة "قرف"، لكانت كافية لتخليده.
أمّا من حيث ما جاء فيها من ألفاظ من ألفاظ، عدّها بعض النقاد عيوباً، وسأعود إلى موضوع النقد لاحقاً، فقد قال مثلها وأكثر منها كبار الشعراء في الجاهلية وصدر الإسلام وعصر الإنبعاث.
قال أبو الطيّب المتنبّي:
من علّم الأسود المخصيّ مكرمة" الخ..
وقال أبو نؤاس في خمريّاته ما تعدّ كلمات "قرف" بالنسبة إليها صلاة.
وقال الأخطل الصغير، شاعر الحب والجمال، في الشاعر الياس أبي شبكة، ما لا أستطيع أن أقوله في صحيفتكم الغرّاء. فهل حطّ ذلك من قيمة الأخطل؟. ألـم يكن هو الشاعر الذي تغنّى العالـم العربي بقصيدته:
يا هند قد ألِفَ الخميلةَ بلبلٌ
يشدو فتصطفقُ الغصونُ وتطربُ
هو شاعر الأطيار لا متكبّر صلفٌ
ولا هو بالإمارة معجبُ
والصوت موهبةُ السّماء فطائرٌ
يشدو على غصنٍ وآخرُ ينعبُ
والشاعر مظفّر النوّاب الذي يندر، في العالـم العربي، إنسان لا يتغنّى ببيت شعره الذي يخاطب حكّام العرب الذين يلزمون الفلسطينيين بالصمت، يقول فيهم:
أولاد القحبة..
هل تسكت مغتصبةٌ؟!
النقد يا أخي نوعان: نقد بنّاء، ونقد هو معول هدم. والذين نقدوا قصيدة شربل "قرف"، نقدوها، لا كعمل فنّيّ، لكن نقدوها من ناحية شخصيّة فرديّة، تكره أن يقول شربل هذه "الرائعة". إن الذين يتغنّون بالأخلاق الحميدة، وينصبّون أنفسهم أوصياء على أذواق النّاس وأسماعهم كي لا تخدش، حبّذا لو جالستهم، واستمعت إلى ما ينعتون به أمّهات النّاس، وأخوات النّاس، طيلة النهار. إذن، العيب الذي عدّوه عيباً، هو إن شربل قال هذه "الرائعة"، ولـم يقولوها هم. وأنا على مثل اليقين: لو أن أي شخص آخر قال هذه القصيدة، لرفع إلى مصاف الأنبياء. لقد قرأت القصيدة مع رجال دين لا يتطرّق الشكّ أبداً إلى مستواهم الخلقي وورعهم وتقواهم، وكان تعليقهم على القصيدة "إنّها عمل فنّي رائع".
لقد خرج شربل على النهج الوجداني في قصيدته هذه، ليبثّ هموم شعبه، ويصرّح بما يراود نفس كل عربي، من الخليج إلى المحيط، في هذا الزمن بالذات.
ـ أستاذ فؤاد، في رأيي، إن رابطة إحياء التراث العربي تعتبر المنار والحصن للكلمة الأدبيّة في المهجر. لماذا صمتت الرابطة حتّى الآن، دون أن تدلي برأي في القصيدة وما دار حولها؟
ـ يقول الأب ملاتيوس، الرئيس السابق للكليّة الشرقيّة في زحلة: " إن الأشرار ليسوا حصراً مَن يرتكبون المنكر، بل هم كل مَن كان باستطاعتهم أن يحبّوا فأبغضوا، وأن يصنعوا الخير فأحجموا، وأن يقولوا الحقّ فصمتوا، وأن يغفروا فانتقموا، وأن يمدّوا يدهم لأخيهم الإنسان فانكفأوا على ذواتهم في إطار أغراضهم ورواسبهم".
ورابطة إحياء التراث العربي صمتت واتخذت موقفاً محايداً، منتظرة أن يرعوي هؤلاء البعض عن أحقادهم، لأننا نرحّب بالنقد الفنّي البنّاء، ونحثّ عليه، ونهتمّ به ونقبله، طالما هو نقد واقعي، الهدف منه، دفع عجلة الأدب إلى الأمام، أمّا أن يصل الحقد إلى محاربة هذا الشاعر في لقمة عيشه، فهذا أمر لـم تستطع الرابطة حياله مكتوفة اليدين.
وأنا، باسم الرابطة، أنتهز الفرصة لأهنّىء الشاعر شربل بعيني على رائعته "قرف"، وأعلن بأنّ الرابطة تتبنّى القصيدة نصّاً ومعنى ومبنى.
وفي ختام حديثي، من موقع المحبّة والإخلاص، أودّ أن أوجّه كلمة إلى أدبائنا الأفاضل، راجياً أن نعمل معاً بمسؤوليّة ومحبّة للنهوض بمستوانا الأدبي، دونما التفات إلى الأمور الشخصيّة والأنانيّات، فنحن إن توحّدنا أصبحنا قوّة وإن تفرّقنا ضعفنا.
التلغراف، العدد 2553، 30 آب 1993
**