القياس الذي نقيس به شربل بعيني/ نعيم خوري

"ماذا يقول الحرف في الشّفتين إن قال الدم؟".
لغة الدم هي أكثر اللغات بلاغة، وصوت الجرح هو أشدّ الأصوات دويّاً، ويبقى الاستنكاف عن الكلام، حيال ما يهدّد وجودنا ويدمّر حياتنا، تآمراً على الدم الذي ليس ملكاً لنا، بل وديعة الأمة فينا، ودعوة تلحّ على نكء الجرح واستمرار النزف حتّى تتعطّل فينا كلّ مقوّمات الحياة.
فالسكوت عن الجريمة، وإن من فضّة، جريمة. والتصدّي للعلّة بالمداهنة أو بالمراهم والمسكّنات، يزيد من الأوجاع والمصائب والنكبات التي لا ينفع معها الصبر الأسطوري. وإذا كان آخر العلاج الكيّ، فإن أفضل الكيّ سيف النّار.
وأن تقوم ضجّة ما حول عمل أدبي، هو دليل عافية ووعي في جاليتنا، التي كثيراً ما تتّهم بالتلطّي حيناً، وبالتكاسل وإهمال القضايا الفكريّة أحياناً، وأعتقد أن أمر هذه الضّجة يعود إلى سببين اثنين: الأول، أهميّة هذا العمل الأدبي، والثاني، اهتمام ويقظة المتلقّي، الذي هو، في هذه الحال، الجالية.
إمّا أن تتحوّل الضّجة عن ماهيّة العمل إلى قشوره تارةً، وإلى صاحب العمل طوراً، شكلاً ولوناً ولباساً، لا الزبدة التي فيه، ولا النكهة التي يوفّرها، فهذا في غاية السخافة، وفي منتهى الإستهتار بالمكتنزات الفكريّة.
وأما الشعر، فكلّ واحد منّا يقرأه ويفهمه على طريقته الخاصّة، انطلاقاً من مستواه الثقافي، ويتذوّقه وفقاً لمناخه النفسي، وإذا كانت عين الحبّ عمياء، فإنّ عين الحقد جامدة كالمومياء.
يبقى أن في الحب فضائل لا تعد ولا تحصى، وفي الحقد فضيلة واحدة إذ "يبدأ بصاحبه فيقتله أوّلاً". وفي هذا الصدد يقول مارتن لوثر كينغ:

"Hate distorts the personality and scars the soul, it is more injurious to the hater than the hated".
قصيدة "قرف" للشاعر شربل بعيني نالت نصيباً وافراً من الأخذ والردّ، كما نال صاحبها نصيبه من الإغتياب والتجريح. ولو أنّ 
شاعراً غير شربل قد كتب ونشر هذا الـ "قرف"، لما حدثت هذه البلبلة، ولما كان لصاحبه أن يتلقّى كل هذه السهام، مرّة تحت ستار المحبّة، ومراراً تحت ستار الغيرة على التربيّة والأخلاق!. فإذا كان المقصود شخص شربل بعيني، فهذه قضيّة تخصّه دون سواه، ولا أظنّه في حاجة إلى من يقف في جانبه ويدافع عنه. وإذا كانت قصيدة "قرف" هي المقصودة، فإنّي مع القصيدة، وأتبنّاها في كلّ مفرداتها وصورها، وفي كل معانيها ومدلولاتها، ذلك لأنها قيلت ونشرت وصارت ملكاً لي ولكل قارىء سواي، ولا أرى مخالفاً للمنطق ولمفهوم الحريّة، أن يقف غيري موقفاً سلبيّاً منها، فينفتح باب الحوار على مصراعيه.
"قرف" قصيدة واقعيّة معبّرة، ترفض الإنحلال والإنحطاط والإنجرار والإرتهان، تجسّد النقمة على المفاسد والمساوىء والمثالب، وتتجاوب مع شرائح واسعة من المجتمع في تذمّرها من "التدهور" الأخلاقي، وفي انتفاضها على الإستغلال والإستلشاء، وثورتها على التعسّف والجور. ثـمّ إنها ليست خارجة عن المألوف في القول، الذي غالباً ما نردّده جميعنا في أحاديثنا ومجالسنا، فكاهة لاذعة، ونقداً إصلاحيّاً ينزل كحدّ السّكّين على مكامن الوجع والأذية. السرّ في "قرف" إنها انتزعت برفير الشّوك عن ساحتنا العامة، وغمرت هامتها بإكليل الغار.
المؤسف المضحك أن يستفرد بعضنا ألفاظاً معدودة، ويعتبرها نابية ومعيبة وبذيئة، ولو عدل هذا البعض، لتناول المقطع ككل، لتتكشّف معانيه ومغازيه وأبعاده، فيتدارك لسانه اللوم، ويدرك آنذاك أنها كلّها ألفاظ وأمثلة شائعة في لغتنا، وفي كلّ لغات الأرض، ولا يمكن نكرانها. فلماذا إذن نعيب على الشعر، أو على الشاعر، استعمالها، ونحن نلجأ إليها في مجالات الترفيه والتنكيت والإمتعاض، وفي سياق التنفيس عن الضغوطات النفسيّة؟.
يبدو لي أننا لـم نقرأ ولـم ندرس، أو أننا نتجاهل ونتناسى، فهل أعيد الى الذاكرة ما قاله عمر الزعني وآميل مبارك وآميل لحّود، أو ما كتبه ابن الرومي وجرير والفرزدق وأبو النوّاس والأخطل الصغير وغيرهم كثيرون؟ فلماذا لـم نقم القيامة على هؤلاء؟ أو أننا نقيسهم بغير القياس الذي نقيس به شربل بعيني؟ أم ترانا نبرّر أن كل ما كان يحقّ لهؤلاء وأولئك في الأمس، لا يحقّ لشربل اليوم؟.
وماذا نقول عن أدب الخلاعة والإباحيّة، ولغة اللواط والسحاق وأفلام الجنس، وكل ذلك معروض "على عينك يا تاجر" في المكتبات، وعلى الأرصفة وشرائط الفيديو، ومن غير أن يرفّ جفن أو يعلو صوت؟.
ترى هل صارت غيرتنا على التربيّة والأخلاق مزاجيّة، أو تعبيراً عن حقد معيّن، في مساحة معيّنة، وفي منحى "ما يروق لغيرنا لا يروق لنا"؟!.
ثـمّ ماذا لو استعان شربل بعيني بكلمات "فعص وبراز وبران"، وهي، فقط، مغطّاة بأقلّ من ورقة التين، ولا تؤدّي المعنى المطلوب، أو ترسم بالضوء الصورة التي يكتنفها الظلام؟.
قليل من الحياء ومن الذوق.. صحيح!! ولكن، هل في وظيفة الحياء التستير على ليل الفحشاء؟
وهل من طبيعة الذوق التعتيم على عمليّات الفجور والظلم والعبوديّة؟ ومتى كان الحياء والذوق أن لا نكون أكثر صراحة ووضوحاً وواقعيّة مع الذات ومع الغير، من كل أدوات الفذلكة ومظاهر الأرستقراطيّة الفارغة من كل مضمون؟ ثـمّ مَن منّا تسربل في السرّ وفي العلانيّة، في الليل وفي النّهار، مع نفسه ومع الناس، بهذين الحياء والذوق، ولـم يردّد كلاماً "أوطى من الزنّار"؟
مَن كان منّا بلا خطيئة فليرجم شربل بعيني بحجر؟! وإذا كانت حجّتنا أننا لـم نكتب ولـم ننشر ما قلناه ونقوله على الملأ، فإنّ شربل قد كان أكثر صراحة، وأكثر جرأة، وأكثر صدقاً، فقال ونشر ليعبّر عن المأساة التي نعاني منها، وليصوّر لنا الحالة الزريّة التي نتخبّط فيها بفضل "حيائنا وذوقنا".
القول بأنّ الحريّة هي حريّة الحلم والوهـم، هو قول خيالي لا قيمة له، لأن الحريّة هي أن نتجاوز الزمن الذي يقيّدنا، وأن نكسر السّكّين الذي يذبحنا، ونلغي الفضيحة التي تلحق بنا اللعنة الأبديّة. والذي يحاول أن يغتصب هذه الحريّة كمن يحاول التستر على الفضيحة، ليجمّدنا في الزّمن، ويسلّط السكّين على أعناقنا.
وفي الدفاع عن هذه الحريّة نحدد اللياقة في الغاية ليستقيم الأسلوب وتنتظم الوسيلة، والذي يدخل في لياقة الإنسان ليس قرب الكلمات من الكياسة، بل من الوضوح والوجدانيّة لتؤدّي مهمّتها وتجسّد دورها، وإلاّ صار كل حديث عن اللياقة مجرّد تمثيل وتهريج وتعهّر.
والشاعر لا يسعى إلى الكلمات فيستعين بها، بل هي تأتيه جليّة مختارة، ولا تفتّش عن الصور ليزيّن واجهته، بل هي تغزو مخيّلته كالبرق، وترتسم بين يديه كالأسطورة، فإن تدمّرت هذه الحقيقة بطُل الكبريت أن يكون سبباً للنار.
لنحمل على الشعر، وعلى مهمّته، فنحن لا نأتي كفراً في ذلك، شرط أن تكون حملتنا بعيدة عن التشنّج والغرض والهوى.
ولنكفر بكل الأفكار والمفاهيم، شرط أن يكون هذا الكفر رديفاً للإيمان الذي يقول لهذا الجبل إنتقل من هنا إلى هنالك فينتقل.
ولنناور إذا شئنا بالذخيرة الحيّة، لا بفقاقيع الصابون، أو قنابل الدخان، عملاً بحريّة الرأي، شرط ألاّ نتمسّك بدور الحريّة فيما يختصّ بنا، ونلغي الدور فيما يختصّ بغيرنا.
في هذه المبادىء وجدت "قرف" شربل بعيني استحقاقاً أدبيّاً يصلح ولا يؤذي، ويترجم صوت الدم لوقف النزف وتحرير المشاعر من عقدة النقص.

النهار الأسترالي، العدد 811، 22 تمّوز 1993
**